فن و ثقافة

حاجتنا إلى نهضة ثقافية و فنية حقيقية بإقليم بركان

حاجتنا إلى نهضة ثقافية و فنية حقيقية بإقليم بركان:
بقلم محمد ستي

النهضة الثقافية و الفنية بكل مدينة تقاس بما يقدم من أنشطة هادفة و متنوعة، تتميز بجودتها و مدى فاعليتها في التغلغل إلى فكر المجتمع، لإثارة مجموعة من القضايا التي تشغله و تستأثر باهتمامه، و مناقشتها في قالب فني يستهوي النفس و يوقض العقل، فيحدث انسجام و تلاقي بين العارض و المتلقي، و هو ما نفتقده في الكثير من العروض التي تغرد خارج السرب، هذا إن وُجدت فعلا فإنها لا ترقى إلى طموح جمهور يتوق إلى نصوص جادة يغلب عليها الطابع الفكاهي، لكنها قريبة من انشغالاته و معاناته، و هل لمثل هذه الأعمال الفنية حضور وازن يرقى إلى تطلعاته، أم أنها عبارة عن دردشة جوفاء، قد تكون منعدمة الوجود؟ فمدينة بركان رغم كل الظروف البشرية العاشقة للفن فإنها لا تمتلك مقومات استقبال فرق مسرحية، أو تنظيم ندوات ثقافية، أو محفلا موسيقيا، أو معارض للوحات فنية، هناك ركود سرق من المواطن كل ما يغذي فيه تلك الروح العاشقة للفن و الثقافة، و كل ما يهذب النفس، و يزيل عنها الإحساس بالضيق الذي يخلق لديه فورانا قد يترجم إلى عدوانية، ينتج عنها سلوكيات تنعكس سلبا على المجتمع، فتتلبسه عصبية مستديمة، و هيجان يصعب مداراته و التحكم فيه، كما سرق منه تلك القدرة على التمييز بين الأشياء و استخلاص العبر، لتنهشه أنياب الجهل، و قلة الحيلة على مغالبة الظواهر المتفشية و الهدامة لكل جميل فيه، فيصبح ضحية أفكار متطرفة، لغياب عروض ثقافية تحسيسية مستمرة، و أنشطة ترفيهية هادفة تزيل الغشاوة عنه، لتتضح لديه الرؤيا، فيرسم طريقا يوصل إلى أهداف تنموية مساهمة في البناء و النهضة، لكن غياب تدخل دور الثقافة التي انحصر دورها في توفير الفضاء، و تنظيم مواعيد تقديم أنشطة مستهلكة لا يتعدى تأثيرها محبس جدرانها، إذا ما استثنينا بعضها، فإن ذلك يكرس لوضع يبعث القلق على المستقبل الثقافي للمدينة، في الوقت الذي يفترض فيه أن تعد برنامجا مفصلا و متنوعا يحمل رسالة إشعاعية محددة الأهداف و المرامي، بعيدا عن العشوائية و برمجة أنشطة ضيقة الأبعاد لا تتعدى المناسبات، و هذا يبعدها عن المسار الصحيح لخدمة المجال الثقافي و توسيعه وفق استراتيجية دقيقة و مدروسة، فالذي تحتاجه الدور الثقافية لتكون منسجمة مع التوجه الحقيقي الذي من أجله كان لها الوجود، أن تتبنى مشاريع ثقافية تنموية انطلاقا من أطفال المدارس، و مشاريع أخرى تستهدف الكبار في شراكة حقيقية تتعدى توفير الفضاء مع جمعيات ذات تصور ثقافي جاد و هادف، تمتلك القدرة على إحداث تغيير يليق بحاجة المجتمع إلى إزالة مسببات الشعور بالضيق، و ملأ الفراغ بما يغذي الفكر و يصقل المواهب، و لتحقيق ذلك فإن التغيير ينبغي أن يطال السياسة التي تدبر بها تلك الدور لتكون في المستوى الذي يتوافق و تطلعات المواطن المنغلق في ذاته المهدودة، و المحروم من كل ما ينفس عن الكروب، فالتركيبة الاجتماعية و ما تتضمنه من شرائح متباينة، تحتاج إلى سياسة قادرة على اختراقها لبناء مشاريع وازنة، تستهدف محاربة تشرد الأطفال، و إدمان المخذرات في الوسط التلاميذي ، و التصدي للإجرام و التحرش، مشاريع تحتاج إلى تكتل مجتمعي لصناعة جيل يمتلك مقومات ثقافية و فنية راقية بانتهاج استراتيجية واضحة الأهداف، و المجتمع المدرسي فضاء مُواة لمثل هذه المشاريع، و يتناسب و مسارها الصحيح نحو إعداد أطفال مؤهلين لمواجهة تحديات الحياة بعيون متفحصة و ليست شاردة، عارفة ببواطن الأمور بعيدة عن الفكر السطحي، قد يكون لها باع في إرساء نهضة تنموية مستقبلية على جميع المستويات، و قد كان للجمعيات الثقافية على تعدادها و تناسلها دور في اختراق المجتمع المدرسي، لكن تبقى أنشطتها موسمية مرتبطة بمناسبات معينة في ظل غياب مشروع متكامل له أبعاده، قد تشتغل عليه سنوات متواصلة لتكوين فرقة مسرحية، أو اكتشاف أصوات تلاميذية، أو أنامل مبدعة في الرسم، أو أرجل بارعة تتقن الكرة المستديرة أو ألعاب القوى، أو تكوين نواة لجمعية أطفال الدراسة، تتكفل بمحاربة الإدمان في الوسط التلاميذي، يسْهُل من خلالها التواصل و تمرير رسائل هادفة، ربما يكون لهذا الغياب أسبابه الموضوعية المرتبطة أساسا بتعقيدات تتعلق بمساطر إحراز تراخيص ممارسة أنشطتها في إطار مشروع متكامل، و أحيانا تكون الخلفيات الأيديولوجية لبعض الجمعيات سببا لإبعادها عن المدارس، و مثلها جمعيات أخرى تهدف إلى الاستفادة من المنح السنوية ببرامج وهمية، تعطي صورة مشوهة عن العمل الجمعوي الذي يستغله من أجل الاسترزاق، مما يضر بالجانب التثقيفي و التوعوي الهادف، فيكرس لوضع غير صحي في الوسط المجتمعي بفقد الثقة في نزاهة الجمعيات، في حين أن بعضها تقدم أعمالا مشرفة لامتلاكها رؤية واضحة عن أجرأة مشاريعها، مما يساعدها على القيام بأدوار طلائعية في تنوير المواطن و الأخذ بيده إلى أن يحقق استقرارا نفسيا و فكريا يؤهله لمواجهة تعقيدات الحياة، خاصة في المناطق الهشة التي تعاني الإقصاء و التهميش المفتعل، لكن مثل هذه الجمعيات يتم مجابهتها و إفشال مشاريعها التنموية، إلا أن غيرها سارت في نفس الدرب و بمستويات متباينة حسب ظروف الاشتغال المحتملة، فمنها من تكلفت بمحاربة التشرد، و مساعدة المتشردين و تعقبهم لتطهير المدينة و تقديمها في صورة مشرفة، و منها من تبنت في مشروعها مساعدة الأيتام و دعمهم ماديا و دراسيا لإنقاذهم من الضياع، و منها من سعت إلى ترسيخ الفكر الرياضي و توسيع دائرة ممارسة الألعاب بشكل واسع ليشمل الطفولة المهمشة و حمايتها من التشرد و الإدمان، و منها من جعلت البيئة في صلب اهتماماتها، و سعت إلى نشر ثقافتها في المجتمع المدرسي و غيره، و هي مبادرات تحتاج إلى التفاتة حقيقية و داعمة من كل مسؤول إقليمي أو جهوي عن تدبير المجال الثقافي و الفني في المدينة، من أجل المأسسة لمجتمع خال من الظواهر التي تشكل عائقا أمام تنمية مستديمة و نهضة شاملة.
أصبح العمل بالمشروع و خلق شراكات حقيقية من شأنهما الرفع من مستوى الأنشطة الثقافية بالإقليم، مع تغيير السياسة التي يتدبر بها هذا القطاع، و جعل الطفولة المدرسية و أطفال الشوارع ضمن أولوياتها و اهتماماتها، لإعادة الروح الثقافية و الفنية و الرياضية بأشكالها المتعددة لأبناء المنطقة، بعد التراجع الذي عرفته خلال السنوات الفارطة.
لكن يبقى السؤال الجوهري في هذا الموضوع و الذي يحتاج إلى وقفة تأمل لتحديد إجاباته، هل فعلا أُريد لهذا المواطن المثقل بهموم الحياة، و الساعي إلى ضمان عيش كريم أن يمارس ميولاته الثقافية و الفنية و الرياضية، و أن يكون له نصيب من الاستمتاع بالعروض الجادة بدل السوقية منها، ليساهم في نهضة شاملة بإبداعاته، أم أنه بُرمج له أن يعيش حياة بمقومات ثقافية و فنية هزيلة لا ترقى إلى تطلعاته؟

محمد ستي

اشترك الآن في القائمة البريدية لموقع عالم أون لاين AalamOnline لمعرفة جديد الاخبار